حكاية أسير.. محمد الحلبى:
مصر هى الرئة التى تتنفس بها فلسطين.. واليد التى لم تقصر أبدًا لقضيتها "الحلقة 19"

حوار: محمد الجزار
الأسير المحرر محمد الحلبى «أبوخليل» خاض رحلة طويلة من الصمود ضد الاحتلال الإسرائيلى، قضيته كانت من أكثر القضايا القانونية والإنسانية تعقيدًا واهتمامًا، حيث كان يعمل مديرًا لمكتب مؤسسة وورلد فيجن «World Vision»الدولية فى قطاع غزة.. اعتقل «أبوخليل» فى يونيو 2016 لأكثر من 50 يومًا، تعرض خلالها لتعذيب نفسى وجسدى ممنهج بسجون الاحتلال وتعتبر محاكمته أطول محاكمة فى تاريخ الأسرى الفلسطينيين، حيث عُقدت له أكثر من 170 جلسة على مدار 6 سنوات ظل مسجونًا فيها.. كشفت قضيته تلاعب منظومة القضاء الإسرائيلى بالعدالة وحكم عليه بالسجن 12عامًا وكان عنوانًا للمظلومية والصمود، حتى نال حريته ضمن صفقة تبادل الأسرى فى فبراير الماضى.. وإلى تفاصيل الحوار:
كيف كانت طفولتك فى غزة؟
- نشأتُ فى قطاع غزة، بين أزقة مخيم جباليا، طفلًا لا يملك من الدنيا إلا براءة السؤال ودفء العائلة وأحلامًا صغيرة تنمو وسط ركام الحصار والاحتلال، رغم القصف المتكرر وانقطاع الكهرباء ومشاهد الدمار التى ترافقنا منذ نعومة أظفارنا، لم تكن طفولتى خالية من البهجة؛ بل كانت تحمل شيئًا من السعادة الممزوجة بالحرمان ومن الإصرار المتوغل فى تفاصيل الحياة اليومية، لعبنا، تعلّمنا، ورأينا الأمهات ينسجن الصبر على وقع الغارات.
متى بدأت العمل العام والإنسانى لمقاومة المحتل؟
- لقد بدأت مبكرًا، لأننى أدركت أن خدمة الناس شكل من أشكال المقاومة، لا يشترط أن نحمل السلاح لنقاوم الاحتلال؛ يكفى أن نبنى مدرسة، أن نُرمم بيتًا أو أن نُعيد الحياة لابتسامة طفل، فى عملى مع مؤسسة «وورلد فيجن» الدولية، توليت إدارة مشاريع حيوية استهدفت الفئات الأكثر ضعفًا، خاصة الأطفال والأسر الفقيرة، كنا نبنى مستقبلًا رغم الجراح ونؤمن بأن الدعم النفسى والمساعدة الاجتماعية والتمكين الاقتصادى هى لبنات صلبة فى جدار الصمود الفلسطينى.
كيف ترى موقف المرأة الفلسطينية؟
- حين أتحدث عن المرأة الفلسطينية، أستحضر مشهد أمى وهى توقظنا على أذان الفجر، تعدّ لنا الخبز وتطمئن على دراستنا، ثم تخرج للعمل أو تعتنى ببيتها رغم الحصار والقصف، المرأة فى فلسطين ليست فقط زوجة أو أمًا، بل مقاومة بصمتها، عظيمة بصبرها، وقائدة فى صراعنا اليومى من أجل البقاء، هى الحبيبة التى تنتظر خلف الجدران، الشهيدة والأسيرة والجريحة والزوجة التى تُعيد لمّ الشمل فى غياب الزوج، والابنة التى تنضج قبل أوانها، إن المرأة الفلسطينية عماد النسيج الوطنى وعنوان الكرامة التى لا تنكسر.
كيف تم اعتقالك ولماذا؟
- فى أحد أيام يونيو 2016، أثناء عودتى من اجتماع رسمى عبر حاجز بيت حانون (إيرز)، اعتقلنى الاحتلال دون إذن أو تهمة، اقتادونى إلى مركز تحقيق عسقلان، وهناك بدأت فصول من الظلم المنهجى، أكثر من 50 يومًا من التعذيب النفسى والجسدى والاستجوابات المكثفة دون أن يعرف أحد مصيرى، لم أكن ساذجًا، كنت أعلم أن الاحتلال يختلق التهم ليبرر استهدافه للعمل الإنسانى فى غزة، قال لى أحد المحققين «بأن المؤسسات الدولية تقوم بتخفيف الحصار من خلال المساعدات وتشغل نفسها بتقارير عن الانتهاكات الإسرائيلية ونحن نريد أن نوقف عملكم ونشغلكم فى الدفاع عن أنفسكم فقط».
ما هى تهمتك وكيف وقفت بوجه العاصفة؟
- وجه الاحتلال إليّ تهمًا خيالية، أبرزها «تمويل الإرهاب» ونقل أموال لحركة للفصائل الفلسطينية، كل ذلك دون أى دليل قانونى، فقط استنادًا إلى تقارير كيدية من أحد عملائهم، منذ اللحظة الأولى واجهت هذه التهم برأس مرفوع، مدعومًا بثقتى فى براءتى والمئات من الوثائق التى تؤكد شفافية عملى، مؤسسة الرؤية العالمية والحكومة الاسترالية والحكومة الألمانية قامت بعمل تدقيق شفاف وتفصيلى وجميع التقارير أكدت أن أموالها لم يحدث أى خطأ فى إدارتها ولم يتم فقدان أى دولار فى غير المخصص لها وأننى بريء من كل التهم.
صف لنا معاناة المحاكمة الطويلة؟
- خضعت أكثر من 170 جلسة محكمة خلال 6 سنوات جلسات مرهقة، تُكرر فيها نفس الادعاءات وتُرفض فيها طلبات الدفاع وتُمارس خلالها الضغوط النفسية، ما كان يؤلمنى أكثر من شيء هو رؤية أبنائى خلف الزجاج خلال الزيارات المتباعدة، لا يُسمح لهم بمعانقتى، جلسات كانت ساحة من الظلم لا القانون، وكان هدفها تحطيم إرادتى لكنهم فشلوا.
تلقيت عروض صفقات من المحكمة أقوم فيها بالإقرار أن بعض المؤسسات الدولية منها منظمة أوكسفام ومنظمة إنقاذ الطفل ومنظمة خدمات الإغاثة الكاثوليكية تقوم بدعم حماس وسيتم إطلاق سراحى وتكون شهادتى سرية، فرفضت وقلت لهم إن المؤسسات الإنسانية تقوم فقط بالعمل الإنسانى.
هل أثر الاعتقال على أسرتك؟
- والدى كرس كل وقته لإبراز قضيتى على المستوى العالمى وكان آخرها زيارته لمصر وخطابه فى جامعة الدول العربية متحدثا عن قضيتى، والدتى رغم حالتها الصحية الصعبة كانت تصر على تحمل مشقة الزيارة وتأتينى، زوجتى تلك البطلة الصامتة تحملت غيابى بصبر الجبال، أبنائى الخمسة كبروا بعيدًا عنى، كبروا قبل أوانهم تحملوا مرارة الغياب، كانت زياراتهم لى شاقة ومعقدة، تتطلب تنسيقًا أمنيًا وغالبًا ما تُرفض وعندما كان يُسمح لهم، كانت الإجراءات مهينة وقت الزيارة لا يتجاوز دقائق قليلة خلف الزجاج، بلا عناق، بلا دفء.
من منحك القوة أثناء المحاكمة الطويلة؟
- إيمانى بأننى لم أخطئ وأننى كنت فى خدمة الإنسان، لا العنف، كنت أستمد عزيمتى من أطفالى، من دعاء والدتى ومن صمود شعبى وذكرياتى فى الميدان بين الأطفال والمدارس والمشاريع التى نفذناها.
كما أن بعض المواقف العربية والدولية كانت تمنحنى طاقة لا توصف، رؤيتى للأجهزة الأمنية والمحكمة فى حرج بعدم قدرتهم على تقديم دليل واحد ورئيس وزرائهم الذى خرج بعد اعتقالى قائلا: «إن لديهم أدلة سيقدمونها للدول المانحة قد تعرى وبان كذبه».
وفى منحى آخر كنت المسئول عن التعليم داخل السجن برامج البكالوريوس والدراسات العليا ماجستير العلوم السياسية فكانت فرصة لإكمال عملى الإنسانى من داخل السجن.
ما هو تفاصيل شماتة قضاة إسرائيل من حادثة السفينة «إيفرجيفن» ؟
- أحد المواقف الطريفة والمعبّرة التى لا أنساها حدثت أثناء إحدى جلسات المحكمة فى عام 2021 عندما علقت سفينة الشحن العملاقة «إيفرجيفن» فى قناة السويس، لاحظت أن القضاة الإسرائيليين كانوا فى غاية الشماتة، وبدأ أحدهم يقول لي: «لو كانت قناة السويس بيد إسرائيل، لكنا سحبنا السفينة وفتحنا القناة فى أسبوع»، نظرت إليه وقلت بثقة: «لو خرج المصريون الموجودون فى شوارع القاهرة فقط، لسحبوا أرض فلسطين كلها» فغضب القاضى وسكت.
وبعد أسبوع، حين نجحت مصر بقيادتها وشعبها فى إنهاء الأزمة وفتح القناة، قلت له فى الجلسة التالية: «الشعب المصرى وقيادته عظماء فتحوا القناة كما وعدوا» فرأيت الاستفزاز فى عيونهم وقاموا بضربى فى زنزانة المحكمة، هذه الواقعة البسيطة كشفت لى مجددًا كم أن مصر قوية بشعبها وبقدرتها على الإنجاز.
كيف ترى الموقف المصرى من القضية الفلسطينية؟
- لا يمكن الحديث عن فلسطين دون الحديث عن مصر، فهى كانت وما زالت سندًا لفلسطين، ليس بالكلمات فقط بل بالأفعال طوال تاريخها بداية من الحروب من أجل القضية إلى رعاية المصالحة وفتح معبر رفح وإدخال المساعدات والأدوية، فمصر هى الرئة التى نتنفس منها واليد التى لا تُقصر أبدًا.
أشكر الشعب المصرى الذى لم يخذلنا يومًا، وأشكر القيادة المصرية التى أظهرت حكمتها وحرصها على وحدة الصف الفلسطينى، فهى لم تكن متفرجة يومًا، بل كانت فاعلة فى ميادين الدعم السياسى والإنسانى والدبلوماسى.
لماذا غاب الدعم الدولى لقضيتك العادلة؟
- منذ اللحظة الأولى لاعتقالى، وقفت مؤسسة «وورلد فيجن» العالمية إلى جانبى ودافعت عنى باستمرار، مؤكدةً أننى كنت موظفًا نزيهًا وأن كل التحقيقات الداخلية التى أجرتها المؤسسة أظهرت عدم وجود أى تحويلات مالية أو دعم لأى جهة غير إنسانية.
ما هى رسالتك للأسرى الفلسطينيين؟
- أحب أن أقول لإخوانى فى السجون: «أنتم الأبطال الحقيقيون صمودكم هو الملهم وذكراكم لا يفارقنا، سنستمر فى النضال من أجلكم حتى نراكم أحرارًا بيننا، أنتم لستم وحدكم، قلوبنا معكم وأقلامنا وأفعالنا كذلك».
ولم أكن يومًا مجرمًا كما أرادوا أن يصورونى، بل كنت فلسطينيًا آمن بالإنسان وخدمة شعبه بأمانة كما أن السجن لم يكسرنى بل زادنى يقينًا بأن الحرية تستحق التضحيات، اليوم أعود لأحمل الكلمة لا الحقد أعود لأقول: «لا تخافوا، فما ضاع حق وراءه شعب حي».